سورة الأنفال | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 177 من المصحف
سورة الأنفال
وهي مدنية. آياتها سبعون وست آيات. كلماتها ألف كلمة وستمائة كلمة وإحدى وثلاثون كلمة. حروفها خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفاً والله أعلم.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ
قال البخاري: قال ابن عباس: الأنفال المغانم, حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان, أخبرنا هشيم أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الأنفال قال: نزلت في بدر. أما ما علقه عن ابن عباس فكذلك رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: الأنفال الغنائم, كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء, وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد أنها المغانم, وقال الكلبي, عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: الأنفال الغنائم, قال فيها لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفلوبإذن الله ريثى وعجل
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال, فقال ابن عباس رضي الله عنهما: الفرس من النفل والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته فقال ابن عباس ذلك أيضاً ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ قال القاسم فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال: قال ابن عباس: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا سئل عن شيء قال لا آمرك ولا أنهاك. ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا زاجراً آمراً محللاً محرماً. قال القاسم فسلط على ابن عباس رجل فسأله عن الأنفال فقال ابن عباس: كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه, فأعاد عليه الرجل فقال له مثل ذلك, ثم عاد عليه حتى أغضبه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه, فقال الرجل أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس, أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه بعد قسم أصل المغنم وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل, والله أعلم.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة من الأخماس, فنزلت {يسألونك عن الأنفال} وقال ابن مسعود ومسروق: لا نفل يوم الزحف, إنما النفل قبل التقاء الصفوف, رواه ابن أبي حاتم عنهما, وقال ابن المبارك وغير واحد عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في الاَية {يسألونك عن الأنفال} قال يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال, من دابة أو عبد أو أمة أو متاع فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء, وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال. قال ابن جرير: وقال آخرون: هي أنفال السرايا حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا علي بن صالح بن حيي, قال بلغني في قوله تعالى: {يسألونك عن الأنفال} قال السرايا, ومعنى هذا ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش. وقد صرح بذلك الشعبي, واختار ابن جرير أنها زيادة على القسم, ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الاَية وهو ما رواه الإمام أحمد, حيث قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير قتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه, وكان يسمى ذا الكتيفة, فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اذهب فاطرحه في القبض» قال فرجعت وبي مالا يعلمه إلا الله, من قتل أخي وأخذ سلبي, قال فما جاوزت إلا يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «اذهب فخذ سلبك».
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أسود بن عامر, أخبرنا أبو بكر عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك, قال: قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين, فهب لي هذا السيف, فقال: «إن هذا السيف لا لك ولا لي, ضعه» قال: فوضعته, ثم رجعت فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي, قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي قال: قلت قد أنزل الله فيّ شيئاً ؟ قال: كنت سألتني السيف وليس هو لي, وإنه قد وهب لي, فهو لك. قال: وأنزل الله هذه الاَية {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وهكذا رواه أبو داود الطيالسي, أخبرنا شعبة أخبرنا سماك بن حرب قال سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد, قال: نزلت فيّ أربع آيات, أصبت سيفاً يوم بدر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نفلنيه, فقال «ضعه من حيث أخذته» مرتين, ثم عاودته فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ضعه من حيث أخذته» فنزلت هذه الاَية {يسألونك عن الأنفال} الاَية وتمام الحديث, في نزول {ووصينا الإنسان بوالديه حسن} وقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر} وآية الوصية وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة به, وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر, وكان السيف يدعى بالمرزبان, فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل, أقبلت به فألقيته في النفل, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله, فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي, فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه, ورواه ابن جرير من وجه آخر.
(سبب آخر في نزول الاَية)
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبي أمامة قال: سألت عبادة عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر, نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين, عن بواء يقول عن سواء. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية بن عمر أخبرنا أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة, عن سليمان بن موسى عن أبي سلامة عن أبي أمامة عن عبادة بن الصامت, قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً, فالتقى الناس, فهزم الله تعالى العدو, فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون, وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه, وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة, حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض, قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب,وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا, نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم, وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به, فنزلت {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع, فإذا أقبل راجعاً نفل الثلث, وكان يكره الأنفال, ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث به نحوه, قال الترمذي: هذا حديث حسن, ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه, من حديث عبد الرحمن بن الحارث, وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه, وروى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه واللفظ له, وابن حبان والحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس, قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا» فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات, فلما كانت المغانم جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم, فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم لو انكشفتم لفئتم إلينا. فتنازعوا فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال ـ إلى قوله ـ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}. وقال الثوري عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس, قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلاً فله كذا وكذا, ومن أتى أسيراً فله كذا وكذا». فجاء أبو اليسر بأسيرين فقال: يا رسول الله صلى الله عليك, أنت وعدتنا, فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله, إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء, وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر, ولا جبن عن العدو, وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك, فتشاجروا ونزل القرآن {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}, قال ونزل القرآن {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} إلى آخر الاَية, وقال الإمام أبو عبيد الله القاسم بن سلام, رحمه الله, في كتاب الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها, أما الأنفال فهي المغانم وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب, فكانت الأنفال الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}, فقسمها يوم بدر على ما أراه الله من غير أن يخمسها على ما ذكرناه في حديث سعد, ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس فنسخت الأولى, قلت هكذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس سواء, وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي. وقال ابن زيد: ليست منسوخة بل هي محكمة, قال أبو عبيد وفي ذلك آثار, والأنفال أصلها جماع الغنائم, إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنة, ومعنى الأنفال في كلام العرب كل إحسان فعله فاعل تفضلاً, من غير أن يجب ذلك عليه, فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم, وإنما هو شيء خصهم الله به تطولاً منه عليهم بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم, فنفلها الله تعالى هذه الأمة, فهذا أصل النفل, قلت: شاهد هذا ما في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ـ فذكر الحديث إلى أن قال ـ وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي». وذكر تمام الحديث, ثم قال أبو عبيد: ولهذا سمى ما جعل الإمام للمقاتلة نفلاً, وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الإسلام والنكاية في العدو, وفي النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى (فإحداهن) في النفل لا خمس فيه وذلك السلب, (والثانية) النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب, فتأتي بالغنائم, فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس, (والثالثة) في النفل من الخمس نفسه, وهو أن تحاز الغنيمة كلها, ثم تخمس فإذا صار الخمس في يدي الإمام, نفل منه على قدر ما يرى. (والرابعة) في النفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء, وهو أن يعطي الأدلاء ورعاة الماشية والسواق لها. وفي كل ذلك اختلاف.
قال الربيع: قال الشافعي: الأنفال أن لا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السلب. قال أبو عبيد: والوجه الثاني من النفل هو شيء زيدوه غير الذي كان لهم وذلك من خمس النبي صلى الله عليه وسلم, فإن له خمس الخمس من كل غنيمة, فينبغي للإمام أن يجتهد, فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم وقل من بإزائه من المسلمين, نفل منه اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا لم يكن ذلك لم ينفل, (والوجه الثالث) من النفل إذا بعث الإمام سرية أو جيشاً فقال لهم قبل اللقاء من غنم شيئاً, فهو له, بعد الخمس فهو لهم على ما شرط الإمام, لأنهم على ذلك غزوا وبه رضوا, انتهى كلامه. وفيما تقدم من كلامه وهو قوله: إن غنائم بدر لم تخمس نظر. ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب, في شارفيه اللذين حصلا له من الخمس يوم بدر, وقد بينت ذلك في كتاب السيرة بياناً شافياً, ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} أي اتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه {وأطيعوا الله ورسوله} أي في قسمه بينكم على ما أراده الله, فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف, وقال ابن عباس: هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم وكذا قال مجاهد, وقال السدي {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} أي لاتستبوا. ولنذكر ههنا حديثاً أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي رحمه الله , في مسنده فإنه قال: حدثنا مجاهد بن موسى, حدثنا عبد الله بن بكر, حدثنا عباد بن شيبة الحبطي عن سعيد بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه, فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ فقال: «رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى, فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. فقال الله تعالى, أعط أخاك مظلمته, قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء قال: رب فليحمل عني من أوزاري». قال: ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال «إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم, فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ, لأي نبي هذا ؟ لأي صديق هذا ؟ لأي شهيد هذا ؟ قال: هذا لمن أعطى ثمنه, قال رب ومن يملك ثمنه ؟ قال أنت تملكه, قال: ماذا يا رب ؟ قال: تعفو عن أخيك, قال: يا رب, فإني قد عفوت عنه, قال الله تعالى: خذ بيد أخيك, فادخلا الجنة». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم, فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة».
** إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}. قال: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه. ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم, فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين, ثم وصف الله المؤمنين فقال {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} فأدوا فرائضه {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمان} يقول زادتهم تصديقاً {وعلى ربهم يتوكلون} يقول لا يرجون غيره. وقال مجاهد {وجلت قلوبهم} فرقت أي فزعت وخافت, وكذا قال السدي وغير واحد, وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي خاف منه, ففعل أوامره وترك زواجره, كقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله, فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}, وكقوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} ولهذا قال سفيان الثوري: سمعت السدي يقول في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}. قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو قال يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فيجل قلبه, وقال الثوري أيضاً عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أمّ الدرداء في قوله {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} قال: الوجل في القلب كاحتراق السعفة, أما تجد له قشعريرة ؟ قال: بلى. قالت: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك, فإن الدعاء يذهب ذلك, وقوله {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمان}, كقوله {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً ؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون}. وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الاَية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضلة في القلوب, كما هو مذهب جمهور الأمة, بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد, كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري, ولله الحمد والمنة, {وعلى ربهم يتوكلون } أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه, ولا يطلبون الحوائج إلا منه, ولا يرغبون إلا إليه, ويعلمون أنه ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, وأنه المتصرف في الملك, وحده لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب, ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان. وقوله {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} ينبه تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذكر اعتقادهم وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها, وهو إقامة الصلاة وهو حق الله تعالى, وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها, وقال مقاتل بن حيان: إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هذا إقامتها, والإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب. والخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه. قال قتادة في قوله {ومما رزقناهم ينفقون}, فأنفقوا مما رزقكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها.
وقوله {أولئك هم المؤمنون حق}, أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد السكسكي عن سعيد بن أبي هلال عن محمد بن أبي الجهم, عن الحارث بن مالك الأنصاري, أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «كيف أصبحت يا حارث ؟» قال: أصبحت مؤمناً حقاً, قال: «انظر ما تقول, فإن لكل شيء حقيقة, فما حقيقة إيمانك ؟» فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري, وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً, وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها, وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: «يا حارث عرفت فالزم» ثلاثاً. وقال عمرو بن مرة في قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حق} إنما أنزل القرآن بلسان العرب كقولك فلان سيد حقاً, وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقاً, وفي القوم تجار. وفلان شاعر حقاً, وفي القوم شعراء. وقوله {لهم درجات عند ربهم} أي منازل ومقامات ودرجات في الجنات كما قال تعالى: {هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون} {ومغفرة} أي يغفر لهم السيئات ويشكر لهم الحسنات. وقال الضحاك في قوله {لهم درجات عند ربهم} أهل الجنة بعضهم فوق بعض, فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه, ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد, ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء». قالوا: يا رسول الله, تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم فقال: «بلى والذي نفسي بيده, لرجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». وفي الحديث الاَخر الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي عطية عن ابن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما تراءون الكوكب الغابر في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما».
** كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقّ بَعْدَمَا تَبَيّنَ كَأَنّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتِيْنِ أَنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقّ الحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
قال الإمام أبو جعفر الطبري: اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله {كما أخرجك ربك}, فقال بعضهم شبه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم وإصلاحهم ذات بينهم وطاعتهم لله ورسوله, ثم روي عن عكرمة نحو هذا ومعنى هذا أن الله تعالى يقول كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم وجعلها إلى قسمه, وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمها على العدل والتسوية, فكان هذا هو المصلحة التامة لكم, وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة, وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم, فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد رشداً وهدى, ونصراً وفتحاً, كما قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم تعلمون} قال ابن جرير وقال آخرون معنى ذلك {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق}, على كره من فريق من المؤمنين كذلك هم كارهون للقتال فهم يجادلونك فيه بعدما تبين لهم. ثم روي عن مجاهد نحوه أنه قال {كما أخرجك ربك} قال كذلك يجادلونك في الحق, وقال السدي: أنزل الله في خروجه إلى بدر ومجادلتهم إياه, فقال {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} لطلب المشركين {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} وقال بعضهم يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر فقالوا أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالاً فنستعد له. قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالباً لعير أبي سفيان التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من خف منهم فخرج في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً, وطلب نحو الساحل من على طريق بدر, وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه, فبعث ضمضم بن عمرو نذيراً إلى أهل مكة, فنهضوا في قريب من ألف مقنع ما بين التسعمائة إلى الألف وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا وجاء النفير فوردوا ماء بدر, وجمع الله بين المسلمين والكافرين على غير ميعاد لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم والتفرقة بين الحق والباطل كما سيأتي بيانه, والغرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه يعده إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير, ورغب كثير من المسلمين إلى العير لأنه كسب بلا قتال, كما قال تعالى: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني حدثنا بكر بن سهل, حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران, حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة «إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها ؟» فقلنا نعم فخرج وخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين, قال لنا «ما ترون في قتال القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟» فقلنا لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ولكنا أردنا العير, ثم قال «ما ترون في قتال القوم ؟» فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو: إذاً لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إناههنا قاعدون} قال فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم, قال فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} وذكر تمام الحديث ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة بنحوه, وروى ابن مردويه أيضاً من حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي وقاص الليثي, عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال « كيف ترون ؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا, قال: ثم خطب الناس فقال «كيف ترون ؟» فقال عمر مثل قول أبي بكر, ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون ؟» فقال سعد بن معاذ يا رسول الله إيانا تريد ؟» فو الذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم, ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك, ولا نكون كالذين قالوا لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له, فصل حبال من شئت, واقطع حبال من شئت, وعاد من شئت, وسالم من شئت, وخذ من أموالنا ما شئت, فنزل القرآن على قول سعد {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} الاَيات وقال العوفي عن ابن عباس لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو, وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر أمر الناس أن يتهيئوا للقتال وأمرهم بالشوكة, فكره ذلك أهل الإيمان فأنزل الله {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} وقال مجاهد يجادلونك في الحق: في القتال, وقال محمد بن إسحاق {يجادلونك في الحق} أي كراهية للقاء المشركين, وإنكاراً لمسير قريش حين ذكروا لهم, وقال السدي: {يجادلونك في الحق بعدما تبين} أي بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به. قال ابن جرير وقال آخرون عنى بذلك المشركين, حدثنا يونس أنبأنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله تعالى: {يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} قال هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام وهم ينظرون. قال وليس هذا من صفة الاَخرين, هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر. ثم قال ابن جرير: ولا معنى لما قاله, لأن الذي قبل قوله {يجادلونك في الحق} خبر عن أهل الإيمان والذي يتلوه خبر عنهم. والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق: أنه خبر عن المؤمنين, وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق وهو الذي يدل عليه سياق الكلام, والله أعلم. وقال الإمام أحمد رحمه الله, حدثنا يحيى بن بكير وعبد الرزاق قالا: حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء, فناداه العباس بن عبد المطلب, قال عبد الرزاق وهو أسير في وثاقه إنه لا يصلح لك, قال ولم ؟ قال لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين, وقد أعطاك الله ما وعدك إسناد جيد ولم يخرجه, ومعنى قوله تعالى: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} أي يحبون أن الطائفة التي لا حد لها ولا منعة ولا قتال تكون لهم وهي العير, {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} أي هو يريد أي يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم, ويظهر دينه ويرفع كلمة الإسلام ويجعله غالباً على الأديان, وهو أعلم بعواقب الأمور, وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره, وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم كقوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم. وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} وقال محمد بن إسحاق رحمه الله: حدثني محمد بن مسلم الزهري, وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن عبد الله بن عباس, كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم, وقال هذه عير قريش فيها أموالهم, فاخرجوا إليها لعل الله أي ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم, وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً, وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار, ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أمر الناس, حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك, فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه, فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة, وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه, حتى بلغ وادياً يقال له ذفران, فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم, فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم عن قريش, فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال, فأحسن. ثم قام عمر رضي الله عنه فقال, فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله به, فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}, ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد, يعني مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشيروا علي أيها الناس» وإنما يريد الأنصار, وذلك أنهم كانوا عدد الناس, وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة, قالوا: يا رسول الله إنا برآء من زمامك حتى تصل إلى دارنا, فإذا وصلت إلينا فأنت في زمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه, وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم, فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: «أجل» فقال آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة, فامض يا رسول الله لما أمرك الله فو الذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك, ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً, إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء, ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك, فسر بنا على بركة الله, فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني الاَن أنظر إلى مصارع القوم» وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا, وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف, اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 177
177 : تفسير الصفحة رقم 177 من القرآن الكريمسورة الأنفال
وهي مدنية. آياتها سبعون وست آيات. كلماتها ألف كلمة وستمائة كلمة وإحدى وثلاثون كلمة. حروفها خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفاً والله أعلم.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ
قال البخاري: قال ابن عباس: الأنفال المغانم, حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان, أخبرنا هشيم أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الأنفال قال: نزلت في بدر. أما ما علقه عن ابن عباس فكذلك رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: الأنفال الغنائم, كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء, وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد أنها المغانم, وقال الكلبي, عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: الأنفال الغنائم, قال فيها لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفلوبإذن الله ريثى وعجل
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال, فقال ابن عباس رضي الله عنهما: الفرس من النفل والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته فقال ابن عباس ذلك أيضاً ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ قال القاسم فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال: قال ابن عباس: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا سئل عن شيء قال لا آمرك ولا أنهاك. ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا زاجراً آمراً محللاً محرماً. قال القاسم فسلط على ابن عباس رجل فسأله عن الأنفال فقال ابن عباس: كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه, فأعاد عليه الرجل فقال له مثل ذلك, ثم عاد عليه حتى أغضبه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه, فقال الرجل أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس, أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه بعد قسم أصل المغنم وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل, والله أعلم.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة من الأخماس, فنزلت {يسألونك عن الأنفال} وقال ابن مسعود ومسروق: لا نفل يوم الزحف, إنما النفل قبل التقاء الصفوف, رواه ابن أبي حاتم عنهما, وقال ابن المبارك وغير واحد عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في الاَية {يسألونك عن الأنفال} قال يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال, من دابة أو عبد أو أمة أو متاع فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء, وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال. قال ابن جرير: وقال آخرون: هي أنفال السرايا حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا علي بن صالح بن حيي, قال بلغني في قوله تعالى: {يسألونك عن الأنفال} قال السرايا, ومعنى هذا ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش. وقد صرح بذلك الشعبي, واختار ابن جرير أنها زيادة على القسم, ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الاَية وهو ما رواه الإمام أحمد, حيث قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير قتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه, وكان يسمى ذا الكتيفة, فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اذهب فاطرحه في القبض» قال فرجعت وبي مالا يعلمه إلا الله, من قتل أخي وأخذ سلبي, قال فما جاوزت إلا يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «اذهب فخذ سلبك».
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أسود بن عامر, أخبرنا أبو بكر عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك, قال: قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين, فهب لي هذا السيف, فقال: «إن هذا السيف لا لك ولا لي, ضعه» قال: فوضعته, ثم رجعت فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي, قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي قال: قلت قد أنزل الله فيّ شيئاً ؟ قال: كنت سألتني السيف وليس هو لي, وإنه قد وهب لي, فهو لك. قال: وأنزل الله هذه الاَية {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وهكذا رواه أبو داود الطيالسي, أخبرنا شعبة أخبرنا سماك بن حرب قال سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد, قال: نزلت فيّ أربع آيات, أصبت سيفاً يوم بدر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نفلنيه, فقال «ضعه من حيث أخذته» مرتين, ثم عاودته فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ضعه من حيث أخذته» فنزلت هذه الاَية {يسألونك عن الأنفال} الاَية وتمام الحديث, في نزول {ووصينا الإنسان بوالديه حسن} وقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر} وآية الوصية وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة به, وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر, وكان السيف يدعى بالمرزبان, فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل, أقبلت به فألقيته في النفل, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله, فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي, فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه, ورواه ابن جرير من وجه آخر.
(سبب آخر في نزول الاَية)
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبي أمامة قال: سألت عبادة عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر, نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين, عن بواء يقول عن سواء. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية بن عمر أخبرنا أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة, عن سليمان بن موسى عن أبي سلامة عن أبي أمامة عن عبادة بن الصامت, قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً, فالتقى الناس, فهزم الله تعالى العدو, فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون, وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه, وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة, حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض, قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب,وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا, نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم, وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به, فنزلت {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع, فإذا أقبل راجعاً نفل الثلث, وكان يكره الأنفال, ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث به نحوه, قال الترمذي: هذا حديث حسن, ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه, من حديث عبد الرحمن بن الحارث, وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه, وروى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه واللفظ له, وابن حبان والحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس, قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا» فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات, فلما كانت المغانم جاؤوا يطلبون الذي جعل لهم, فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم لو انكشفتم لفئتم إلينا. فتنازعوا فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال ـ إلى قوله ـ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}. وقال الثوري عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس, قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلاً فله كذا وكذا, ومن أتى أسيراً فله كذا وكذا». فجاء أبو اليسر بأسيرين فقال: يا رسول الله صلى الله عليك, أنت وعدتنا, فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله, إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء, وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر, ولا جبن عن العدو, وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك, فتشاجروا ونزل القرآن {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}, قال ونزل القرآن {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} إلى آخر الاَية, وقال الإمام أبو عبيد الله القاسم بن سلام, رحمه الله, في كتاب الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها, أما الأنفال فهي المغانم وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب, فكانت الأنفال الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}, فقسمها يوم بدر على ما أراه الله من غير أن يخمسها على ما ذكرناه في حديث سعد, ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس فنسخت الأولى, قلت هكذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس سواء, وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي. وقال ابن زيد: ليست منسوخة بل هي محكمة, قال أبو عبيد وفي ذلك آثار, والأنفال أصلها جماع الغنائم, إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنة, ومعنى الأنفال في كلام العرب كل إحسان فعله فاعل تفضلاً, من غير أن يجب ذلك عليه, فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم, وإنما هو شيء خصهم الله به تطولاً منه عليهم بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم, فنفلها الله تعالى هذه الأمة, فهذا أصل النفل, قلت: شاهد هذا ما في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ـ فذكر الحديث إلى أن قال ـ وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي». وذكر تمام الحديث, ثم قال أبو عبيد: ولهذا سمى ما جعل الإمام للمقاتلة نفلاً, وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الإسلام والنكاية في العدو, وفي النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى (فإحداهن) في النفل لا خمس فيه وذلك السلب, (والثانية) النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب, فتأتي بالغنائم, فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس, (والثالثة) في النفل من الخمس نفسه, وهو أن تحاز الغنيمة كلها, ثم تخمس فإذا صار الخمس في يدي الإمام, نفل منه على قدر ما يرى. (والرابعة) في النفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء, وهو أن يعطي الأدلاء ورعاة الماشية والسواق لها. وفي كل ذلك اختلاف.
قال الربيع: قال الشافعي: الأنفال أن لا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السلب. قال أبو عبيد: والوجه الثاني من النفل هو شيء زيدوه غير الذي كان لهم وذلك من خمس النبي صلى الله عليه وسلم, فإن له خمس الخمس من كل غنيمة, فينبغي للإمام أن يجتهد, فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم وقل من بإزائه من المسلمين, نفل منه اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا لم يكن ذلك لم ينفل, (والوجه الثالث) من النفل إذا بعث الإمام سرية أو جيشاً فقال لهم قبل اللقاء من غنم شيئاً, فهو له, بعد الخمس فهو لهم على ما شرط الإمام, لأنهم على ذلك غزوا وبه رضوا, انتهى كلامه. وفيما تقدم من كلامه وهو قوله: إن غنائم بدر لم تخمس نظر. ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب, في شارفيه اللذين حصلا له من الخمس يوم بدر, وقد بينت ذلك في كتاب السيرة بياناً شافياً, ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} أي اتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه {وأطيعوا الله ورسوله} أي في قسمه بينكم على ما أراده الله, فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف, وقال ابن عباس: هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم وكذا قال مجاهد, وقال السدي {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} أي لاتستبوا. ولنذكر ههنا حديثاً أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي رحمه الله , في مسنده فإنه قال: حدثنا مجاهد بن موسى, حدثنا عبد الله بن بكر, حدثنا عباد بن شيبة الحبطي عن سعيد بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه, فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ فقال: «رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى, فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. فقال الله تعالى, أعط أخاك مظلمته, قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء قال: رب فليحمل عني من أوزاري». قال: ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال «إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم, فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ, لأي نبي هذا ؟ لأي صديق هذا ؟ لأي شهيد هذا ؟ قال: هذا لمن أعطى ثمنه, قال رب ومن يملك ثمنه ؟ قال أنت تملكه, قال: ماذا يا رب ؟ قال: تعفو عن أخيك, قال: يا رب, فإني قد عفوت عنه, قال الله تعالى: خذ بيد أخيك, فادخلا الجنة». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم, فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة».
** إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}. قال: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه. ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم, فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين, ثم وصف الله المؤمنين فقال {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} فأدوا فرائضه {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمان} يقول زادتهم تصديقاً {وعلى ربهم يتوكلون} يقول لا يرجون غيره. وقال مجاهد {وجلت قلوبهم} فرقت أي فزعت وخافت, وكذا قال السدي وغير واحد, وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي خاف منه, ففعل أوامره وترك زواجره, كقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله, فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}, وكقوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} ولهذا قال سفيان الثوري: سمعت السدي يقول في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}. قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو قال يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فيجل قلبه, وقال الثوري أيضاً عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أمّ الدرداء في قوله {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} قال: الوجل في القلب كاحتراق السعفة, أما تجد له قشعريرة ؟ قال: بلى. قالت: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك, فإن الدعاء يذهب ذلك, وقوله {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمان}, كقوله {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً ؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون}. وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الاَية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضلة في القلوب, كما هو مذهب جمهور الأمة, بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد, كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري, ولله الحمد والمنة, {وعلى ربهم يتوكلون } أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه, ولا يطلبون الحوائج إلا منه, ولا يرغبون إلا إليه, ويعلمون أنه ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, وأنه المتصرف في الملك, وحده لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب, ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان. وقوله {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} ينبه تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذكر اعتقادهم وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها, وهو إقامة الصلاة وهو حق الله تعالى, وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها, وقال مقاتل بن حيان: إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هذا إقامتها, والإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب. والخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه. قال قتادة في قوله {ومما رزقناهم ينفقون}, فأنفقوا مما رزقكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها.
وقوله {أولئك هم المؤمنون حق}, أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد السكسكي عن سعيد بن أبي هلال عن محمد بن أبي الجهم, عن الحارث بن مالك الأنصاري, أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «كيف أصبحت يا حارث ؟» قال: أصبحت مؤمناً حقاً, قال: «انظر ما تقول, فإن لكل شيء حقيقة, فما حقيقة إيمانك ؟» فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري, وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً, وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها, وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: «يا حارث عرفت فالزم» ثلاثاً. وقال عمرو بن مرة في قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حق} إنما أنزل القرآن بلسان العرب كقولك فلان سيد حقاً, وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقاً, وفي القوم تجار. وفلان شاعر حقاً, وفي القوم شعراء. وقوله {لهم درجات عند ربهم} أي منازل ومقامات ودرجات في الجنات كما قال تعالى: {هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون} {ومغفرة} أي يغفر لهم السيئات ويشكر لهم الحسنات. وقال الضحاك في قوله {لهم درجات عند ربهم} أهل الجنة بعضهم فوق بعض, فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه, ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد, ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء». قالوا: يا رسول الله, تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم فقال: «بلى والذي نفسي بيده, لرجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». وفي الحديث الاَخر الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي عطية عن ابن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما تراءون الكوكب الغابر في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما».
** كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقّ بَعْدَمَا تَبَيّنَ كَأَنّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتِيْنِ أَنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقّ الحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
قال الإمام أبو جعفر الطبري: اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله {كما أخرجك ربك}, فقال بعضهم شبه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم وإصلاحهم ذات بينهم وطاعتهم لله ورسوله, ثم روي عن عكرمة نحو هذا ومعنى هذا أن الله تعالى يقول كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم وجعلها إلى قسمه, وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمها على العدل والتسوية, فكان هذا هو المصلحة التامة لكم, وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة, وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم, فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد رشداً وهدى, ونصراً وفتحاً, كما قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم تعلمون} قال ابن جرير وقال آخرون معنى ذلك {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق}, على كره من فريق من المؤمنين كذلك هم كارهون للقتال فهم يجادلونك فيه بعدما تبين لهم. ثم روي عن مجاهد نحوه أنه قال {كما أخرجك ربك} قال كذلك يجادلونك في الحق, وقال السدي: أنزل الله في خروجه إلى بدر ومجادلتهم إياه, فقال {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} لطلب المشركين {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} وقال بعضهم يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر فقالوا أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالاً فنستعد له. قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالباً لعير أبي سفيان التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من خف منهم فخرج في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً, وطلب نحو الساحل من على طريق بدر, وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه, فبعث ضمضم بن عمرو نذيراً إلى أهل مكة, فنهضوا في قريب من ألف مقنع ما بين التسعمائة إلى الألف وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا وجاء النفير فوردوا ماء بدر, وجمع الله بين المسلمين والكافرين على غير ميعاد لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم والتفرقة بين الحق والباطل كما سيأتي بيانه, والغرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه يعده إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير, ورغب كثير من المسلمين إلى العير لأنه كسب بلا قتال, كما قال تعالى: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني حدثنا بكر بن سهل, حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران, حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة «إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها ؟» فقلنا نعم فخرج وخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين, قال لنا «ما ترون في قتال القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟» فقلنا لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ولكنا أردنا العير, ثم قال «ما ترون في قتال القوم ؟» فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو: إذاً لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إناههنا قاعدون} قال فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم, قال فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} وذكر تمام الحديث ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة بنحوه, وروى ابن مردويه أيضاً من حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي وقاص الليثي, عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال « كيف ترون ؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا, قال: ثم خطب الناس فقال «كيف ترون ؟» فقال عمر مثل قول أبي بكر, ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون ؟» فقال سعد بن معاذ يا رسول الله إيانا تريد ؟» فو الذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم, ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك, ولا نكون كالذين قالوا لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له, فصل حبال من شئت, واقطع حبال من شئت, وعاد من شئت, وسالم من شئت, وخذ من أموالنا ما شئت, فنزل القرآن على قول سعد {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} الاَيات وقال العوفي عن ابن عباس لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو, وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر أمر الناس أن يتهيئوا للقتال وأمرهم بالشوكة, فكره ذلك أهل الإيمان فأنزل الله {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} وقال مجاهد يجادلونك في الحق: في القتال, وقال محمد بن إسحاق {يجادلونك في الحق} أي كراهية للقاء المشركين, وإنكاراً لمسير قريش حين ذكروا لهم, وقال السدي: {يجادلونك في الحق بعدما تبين} أي بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به. قال ابن جرير وقال آخرون عنى بذلك المشركين, حدثنا يونس أنبأنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله تعالى: {يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} قال هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام وهم ينظرون. قال وليس هذا من صفة الاَخرين, هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر. ثم قال ابن جرير: ولا معنى لما قاله, لأن الذي قبل قوله {يجادلونك في الحق} خبر عن أهل الإيمان والذي يتلوه خبر عنهم. والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق: أنه خبر عن المؤمنين, وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق وهو الذي يدل عليه سياق الكلام, والله أعلم. وقال الإمام أحمد رحمه الله, حدثنا يحيى بن بكير وعبد الرزاق قالا: حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء, فناداه العباس بن عبد المطلب, قال عبد الرزاق وهو أسير في وثاقه إنه لا يصلح لك, قال ولم ؟ قال لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين, وقد أعطاك الله ما وعدك إسناد جيد ولم يخرجه, ومعنى قوله تعالى: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} أي يحبون أن الطائفة التي لا حد لها ولا منعة ولا قتال تكون لهم وهي العير, {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} أي هو يريد أي يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم, ويظهر دينه ويرفع كلمة الإسلام ويجعله غالباً على الأديان, وهو أعلم بعواقب الأمور, وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره, وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم كقوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم. وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} وقال محمد بن إسحاق رحمه الله: حدثني محمد بن مسلم الزهري, وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن عبد الله بن عباس, كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم, وقال هذه عير قريش فيها أموالهم, فاخرجوا إليها لعل الله أي ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم, وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً, وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار, ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أمر الناس, حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك, فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه, فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة, وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه, حتى بلغ وادياً يقال له ذفران, فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم, فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم عن قريش, فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال, فأحسن. ثم قام عمر رضي الله عنه فقال, فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله به, فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}, ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد, يعني مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشيروا علي أيها الناس» وإنما يريد الأنصار, وذلك أنهم كانوا عدد الناس, وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة, قالوا: يا رسول الله إنا برآء من زمامك حتى تصل إلى دارنا, فإذا وصلت إلينا فأنت في زمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه, وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم, فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: «أجل» فقال آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة, فامض يا رسول الله لما أمرك الله فو الذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك, ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً, إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء, ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك, فسر بنا على بركة الله, فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني الاَن أنظر إلى مصارع القوم» وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا, وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف, اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق.
الصفحة رقم 177 من المصحف تحميل و استماع mp3